مخططات خارجية فاشلة- حرب السودان، الفتنة، ومقاومة الشعب

المؤلف: جمال عبد العال خوجلي10.02.2025
مخططات خارجية فاشلة- حرب السودان، الفتنة، ومقاومة الشعب

لم يعد خافيًا على أحد، حتى لأقلّ المتابعين للشأن السوداني، البصمات الواضحة للتدخلات الخارجية الخبيثة التي أشعلت نار الحرب في السودان منذ اندلاعها المؤسف في شهر أبريل/نيسان من العام المنصرم. هذه الأيادي الآثمة لم تعد تتحرج، بل باتت تعلن بجلاء عن تورطها العميق في هذه الحرب المدمرة التي ستكمل شهرها التاسع عشر بعد أيام قلائل.

إن الحرب، التي اتسعت رقعتها بشكل مأساوي، لم تكن لتستمر لولا الدعم اللامحدود الذي يقدمه الخارج لميليشيات الدعم السريع، من أسلحة متطورة وعتاد عسكري ومرتزقة أجانب. لم تتوانَ هذه الجهات عن إيصال الإمدادات عبر كافة المعابر والمنافذ المتاحة، خاصة من الحدود الغربية. ورغم الخسائر الفادحة التي ألحقها بها الجيش السوداني والقوات المشتركة من حركات دارفور، الذين يدافعون ببسالة عن أراضيهم في وجه التدخلات الخارجية، إلا أنهم ماضون في غيهم، إيمانًا منهم بأن العائد من إسقاط السودان والسيطرة على مقدراته وثرواته الهائلة يفوق بكثير تكاليف هذه الحرب البغيضة.

هذه الخطة الخبيثة التي تستهدف السودان أرضًا وشعبًا وموارد، تتشارك فيها دول إقليمية ودول أخرى من خارج المنطقة، لتنفيذ هذا المخطط الشائن. يكمن طمعهم في الموقع الجيوسياسي الاستراتيجي للسودان، خاصة الشريط الحيوي على البحر الأحمر، وكذلك ثرواته المائية الهائلة وأراضيه الزراعية الشاسعة، وما يختزنه باطن الأرض من كنوز دفينة تمتد في معظم أرجائه. هذا الثراء الفاحش استدرج أيضًا الصراع المحتدم بين النفوذ الروسي المتزايد في غرب أفريقيا على حساب النفوذ الفرنسي المتراجع.

لقد باءت بالفشل الذريع الخطة الأساسية التي كانت تتوهم الاستيلاء على السلطة في غضون ساعات معدودة، ثم تبعها فشل مماثل للخطة البديلة التي كانت ترمي إلى السيطرة على إقليم دارفور بكامل ولاياته الأربع، وذلك بفضل الصمود الأسطوري لأبناء الإقليم من حركات التحرير.

فشلت إذًا خطة الاستيلاء الكامل على السلطة في السودان، على الرغم من النجاح الجزئي الذي حققته في تهجير الملايين من السكان من مدنهم وقراهم ومساكنهم، وتدمير المؤسسات والهيئات العامة والمصانع الحكومية والخاصة. أكثر من عشرة ملايين سوداني اقتلعوا من جذورهم بقوة السلاح، ولقي حتفهم من رفض الخنوع والاستسلام، أو قاوم محاولات الاغتصاب والسرقة والنهب التي مارستها الميليشيات.

لم تنجح الخطة، على الرغم من اتساع رقعة الحرب لتشمل ولايات الجزيرة وسنار والخرطوم وولايات دارفور وأجزاء من النيل الأبيض. فالميليشيات التي سيطرت على هذه المناطق لم تتمكن من ترسيخ نفوذها وتنفيذ رؤية حليفها السياسي الذي صاغ معها بيان الدولة البديلة داخل السودان، والذي تم توقيعه في أديس أبابا في يناير/كانون الثاني 2024م. كان الاتفاق ينص على إقامة إدارة مدنية في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع.

لقد تبددت فكرة ومخطط إقامة الإدارة المدنية على غرار النموذج الليبي، على الرغم من الدعم السخي الذي قدمه الداعمون السياسيون والمتعاونون الداخليون. فالمرتزقة لم يكن يعنيهم سوى النهب والسرقة والاستيلاء على ممتلكات المواطنين وتهجيرهم من ديارهم.

في المقابل، استمر تدفق الإمدادات العسكرية الضخمة وتجنيد المرتزقة من المقاتلين المدعومين من الخارج، الذين انخرطوا في نهب الأموال والممتلكات وعادوا بها إلى أوطانهم. لم تتوقف شحنات الأسلحة، بل ازدادت كمًا ونوعًا، وأصبح الإمداد يتم عبر الطائرات التي تهبط في مهابط ترابية حول كردفان، ثم تنقل المعدات إلى ساحات القتال.

وبالتوازي مع ذلك، واصل المخطط حشد المجموعات السياسية الموالية للميليشيات عبر لقاءات ومؤتمرات في باريس وأديس أبابا ونيروبي وكمبالا وغيرها، بهدف تعزيز ما يسمى بالقوى المدنية التي يُفترض أنها ستعود إلى السلطة تحت ستار التحول المدني الديمقراطي.

لكن كل هذه المؤتمرات واللقاءات باءت بالفشل، وسط تزايد سخط الشعب على ممارسات الميليشيات الوحشية من قتل واغتصاب ونهب. لم تجد هذه المؤتمرات نفعًا، على الرغم من محاولات التجميل واستدراج المنظمات (الوهمية) والمنابر الإعلامية؛ لإعادة إنتاج المسرحية الهزلية التي انطلت على المجتمع السوداني عام 2019م.

الهدف الخفي وراء هذه المؤتمرات واللقاءات هو تقديم شخصية مدنية مدعومة من الخارج، على غرار نموذج كرزاي، لكي تدعو إلى وقف الحرب على الوضع العسكري الراهن، مع سيطرة ميليشيات الدعم السريع على معظم دارفور وولايات الجزيرة وأجزاء من سنار وسنجة والنيل الأبيض وكردفان، ثم إنقاذ السودان من الدمار والعبور به إلى واحات السلام. وبذلك تضمن ميليشيات الدعم السريع السيطرة الفعلية على معظم أراضي السودان.

لم يتوقف البحث عن كرزاي السودان طوال هذه اللقاءات والمؤتمرات، خاصة بعد التأكد من ضعف الشخصية القيادية الحالية وتجربتها السابقة التي انتهت بالاستقالة في 2021م. يضاف إلى ذلك التركيبة المتنافرة داخل ما يسمى بالقوى المدنية، حتى داخل الأحزاب نفسها، فضلًا عن تذمر عدد من دول الجوار السوداني التي تعاني من اضطرابات داخلية، وخاصة كينيا وإثيوبيا. كل هذه العوامل أضعفت الخطة.

ومع فشل العثور على كرزاي السودان، تحولت الخطة الخارجية إلى محاولة إشعال الفتنة وزرع بذور الحروب الأهلية من خلال ممارسات الميليشيات التي بدأت في قتل المواطنين وذبحهم واغتصاب النساء.

لقد اختاروا ولاية الجزيرة، التي ظلت لقرون مركزًا لانصهار قبائل السودان ومجموعاته العرقية والإثنية، اختاروها بعناية فائقة؛ لأنها تضم أعدادًا كبيرة من أبناء قبائل الرزيقات والمسيرية وغيرها، الذين يشكلون غالبية قادة وجنود الميليشيات.

تعتمد الخطة على استفزاز أهالي وقبائل مناطق الجزيرة بحملات التصفية والتطهير والتهجير القسري، مما سيؤدي إلى رد فعل عنيف من جانب الأهالي ضد مجموعات من قبائل الدعم السريع المستوطنة في الجزيرة. عندها ستعمل الآلة الإعلامية الخارجية على الترويج للحرب الأهلية والفتنة المسلحة، واستدعاء المنظمات الدولية للترويج لهذه الكذبة بأن الطرفين متورطان في الحرب الأهلية والإبادة الجماعية، مما قد يعزز الدعوة إلى تدخل خارجي بشكل جديد.

الهدف الخبيث من حملات القتل والإبادة في الجزيرة هو تمهيد الطريق أمام تدخل أممي عسكري، يجعل السودان دولة بلا جيش، ويأتي بكرزاي ومجموعته التابعة في السلطة، بدعم من الخارج المتآمر، سلطة تفتقر إلى الشرعية وتعمل على مساواة الجيش بمليشيات الدعم السريع.

لكن هذه الخطة تواجه عقبات جمة، أهمها معارضة مصر الشديدة لأي تدخل أجنبي في السودان، حتى لو كان من قوات أفريقية، وهو نفس موقف دولة جنوب السودان. أما في مجلس الأمن، فمن المرجح أن تعترض روسيا والصين أيضًا على هذه الخطة.

إن الترويج الذي تتولاه الآلات الإعلامية للتآمر الخارجي باشتراك طرفي النزاع في الاقتتال الأهلي تكذبه الحقائق على الأرض، وخاصة ما يحدث في ولاية الجزيرة. فالأهالي في قرى شرق الجزيرة وغربها يستنجدون بالجيش السوداني في مواجهة ميليشيات الدعم السريع التي ترتكب أبشع الجرائم والانتهاكات بحق المدنيين العزل. لقد بلغ عدد القتلى أكثر من 400 شخص في مناطق تمبول وأزرق والسريحة.

هذا فضلًا عن قيام الميليشيات بأسر أكثر من 150 مواطنًا أعزل من منطقة السريحة، وقد تم العثور على جثث بعضهم في قنوات الري والأراضي الزراعية، من بينهم طفل رضيع تم انتزاعه قسرًا من أمه. كما عُثر على جثث ثلاثة من الأسرى مذبوحين بوحشية. نزحت أعداد كبيرة من السكان من مناطق شرق الجزيرة، هربًا من القتل والدمار، إلى جنوب ولايتي القضارف وكسلا.

وعلى الرغم من قسوة الأوضاع التي يعيشها أهالي الجزيرة، فإن ميليشيات الدعم السريع تعاني الأمرين، وهي تتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه الانتهاكات من قتل وذبح وتدمير. فالجزيرة لم يعد بها ما يُسرق أو يُنهب، وقد انقطعت عنهم الإمدادات التي كانت تصلهم من عتاد وسلاح ومؤن وغذاء. كذلك فإن الجيش قد بدأ يطبق عليهم منافذ الخروج والدخول، مما يصعب عليهم الهروب، خاصة بعد اتساع نطاق تواجد الجيش في مناطق ولاية الخرطوم المتاخمة لشرق الجزيرة.

إن تمدد الجيش العسكري وتأييد عموم المواطنين له يستدعيان السياسيين المخلصين ورموز الوطن وقيادة الجيش إلى ضرورة تنسيق وتجميع القوى المدنية الصادقة وتقديم رؤى شاملة للحاضر والمستقبل، بعيدًا عن انتهازية المجموعات السابقة أو ذات الأجندات الخاصة، لإسقاط ورقة التوت عن القوى المدنية المدعومة من الخارج.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة